عندما لا يكون هناك دليل كاف لإدانة مرتكب الجريمة فإن ذلك لا ينفي وقوع الجريمة أو عدم قيامه بارتكابها. فالشك في القانون يفسر لمصلحة المتهم. إذ يفترض أن المذنبين خارج السجن أكثر من المظلومين داخله. لكن إذا أضفنا الأخطاء الإجرائية وغيرها لما سبق لأصبح أخطر المجرمين وأذكاهم خارج السجن، وأصبح أغبى المجرمين وأقلهم خطورة داخله كما هي الحال عندنا.
يختلف استخدام المال السياسي من تمويل حملات انتخابية إلى رشوة إلى تمويل مجموعات الضغط إلى شراء الأصوات. فبينما يجرم القانون الرشوة وشراء الأصوات إلا أن كلا من تمويل الحملات الانتخابية وتمويل مجموعات الضغط (Lobbyists) يعتبر قانونيا في دول العالم المتقدمة. حيث تستخدم الأموال في البحث والتحري واعداد التقارير والحجج والاعلانات وتعيين الأشخاص المناسبين لإقناع الناخبين في حالة الحملات الانتخابية ولإقناع السياسيين بوجهة نظر معينة في حالة مجموعات الضغط. اذ غالبا ما تتكون مجموعات الضغط من مسؤولين حكوميين سابقين يعرفون كيفية اتخاذ القرارات الحكومية. كمثال يقدر تمويل مجموعات الضغط بالولايات المتحدة بـ 3.3 مليارات دولار سنة 2011، وكان أكبر ثلاثة ممولين لمجموعات الضغط هي غرفة التجارة الأميركية واتحاد العقاريين وجنرال الكتريك. ومن الأمثلة المثيرة استخدام شركات السيجار لمجموعات الضغط التي نجحت في إقناع السياسيين وأصحاب القرار لسنوات أن السيجار غير ضار صحيا مثل السجائر، بينما هو في الواقع ضار كالسجائر ان لم يكن أكثر ضررا.
بينما تستخدم الأموال بشكل واضح في الحملات الانتخابية في الدول المتقدمة، فهي ليست للمرشح وانما لتمويل حملته الانتخابية، وهي ليست للمسؤولين الحكوميين في حالة مجموعات الضغط وانما لبذل الجهود لإقناعهم بطرق قانونية. نجد من جانب آخر أن الرشوة تكون خاصة، فهي عبارة عن مال يدفع أو خدمة أو تعيين أو ترقية أو أي جميل آخر يقدم في مقابل خدمة تخالف القانون. ونجد بعد فترة بسبب الرشوة يضعف تطبيق القانون وينتشر الفساد. لكن لنترك كل ذلك جانبا ونركز على البحث في تفاصيل شراء الأصوات المتداول بكثرة في أوقات الانتخابات.
شراء الأصوات
تنتشر ظاهرة شراء الأصوات في الدول الفقيرة أو في الدول التي ظهرت بها ثروات مفاجئة. حتى أن هذه الظاهرة كانت منتشرة في الولايات المتحدة وبريطانيا في القرن التاسع عشر مقابل نقود أو مشروبات كحولية أو رعاية صحية إلخ، لكنها انتهت مع التطور الاقتصادي والصناعي هناك. وحتى نعرف المعنى الحقيقي لشراء الأصوات والذي لا يقتصر على النقود فقط، فهو عبارة عن مكافأة تعطى للفرد لينتخب بطريقة معينة أو كي لا ينتخب اطلاقا. وهذه المكافأة قد تكون عندنا في احدى الصور التالية:
1 – كاش.
2 – توظيف.
3 – ترقية أو نقل أو انتداب.
4 – بعثات دراسية.
5 – علاج بالخارج.
6 – معاملات استثنائية مخالفة للوائح والتعليمات.
7 – ممارسات ومناقصات حكومية صغيرة ورخص تجارية مقابل تصويت مجموعة أفراد كأسرة أو جماعة أخرى.
الواسطة
قد يكون هناك خلاف حول توسط المرشحين والنواب لحالات مستحقة من وجهة نظرهم، لكنها تخالف اللوائح والتعليمات. وهنا يظهر بوضوح استمرار عدم تعديل اللوائح والقوانين لكي يستفيد كل من المرشحين والحكومة في عملية شراء الأصوات غير النقدية. اذ لن يقوم المرشحون أو النواب أو حتى الحكومة بتسهيل الإجراءات، لأن ذلك ببساطة سيفقد الحكومة والمرشحين والنواب ميزة مهمة في الانتخابات. وهذا يعني أن هناك تضارب مصالح بين الحكومة والنواب والمرشحين من جهة وبين مصالح المواطنين من جهة أخرى. لذلك نجد حرصا حكوميا نيابيا على تصعيب الإجراءات والاستفادة الانتخابية من البيروقراطية الحكومية. ويمكن الاستدلال على ذلك من افتخار النواب بالتوسط لحالات إنسانية بدل أن يقوموا بتعديل القوانين لتشمل الحالات نفسها أو حتى إجبار الحكومة لاتخاذ ما يلزم لتقليل البيروقراطية المسببة للهدر. كما يمكن الاستدلال على ذلك أيضا من تراجع ترتيب الكويت مؤخرا في مؤشر سهولة الأعمال إلى المرتبة الـ 102 عالميا لسنة 2017 وكانت في المرتبة 98 في العام السابق.
مقابل نقدي للصوت
يبقى شراء الأصوات مقابل الكاش أمراً مستغرباً حدوثه في دولة غنية حتى لو كانت بيروقراطية. لكن بالرغم من كثرة ما يتداول عن شراء الأصوات في وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي، لم تتم الإدانة إلا في بضعة أحكام أول درجة مع وقف النفاذ بالحبس لمرشحين سابقين، وصدر حكم استئناف مع وقف النفاذ أيضا بحق نائب في المجلس المبطل الثاني بتهمة شراء أصوات انتخابية. ولكي نقطع الشك بيقين أكبر، تم اتباع الطريقة التقليدية للاستدلال، وهي الرجوع لبيانات عرض النقد من البنك المركزي لفترة شهر الانتخابات والشهر السابق له، لبيان التغيير في مستويات الكاش والحسابات الجارية، أو ما يمكن تحويله بسهولة إلى نقد (M1) وكانت النتائج متفارقة في الانتخابات، لكن كان الاحتمال الأكبر والأقل لشيوع شراء الأصوات في بعضها حسب الآتي:
الأكثر احتمالاً:
1 – انتخابات فبراير 1981 حيث ارتفعت مستويات النقد أكثر من 25% على مدى شهرين. (بداية العمل بنظام الدوائر الــ 25).
2 – انتخابات ديسمبر 2012 (المبطل الثاني)، حيث ارتفعت مستويات النقد أكثر من 11% على مدى شهرين. (بداية العمل بنظام الصوت الواحد).
3 – انتخابات مايو 2008، حيث ارتفعت مستويات النقد أكثر من 9.5% على مدى شهرين. (بداية العمل بنظام الدوائر الخمس).
الأقل احتمالاً:
4 – انتخابات يونيو 2006، حيث انخفضت مستويات النقد أكثر من 4.5% على مدى شهرين.
5 – انتخابات يوليو 1999، حيث انخفضت مستويات النقد أكثر من 4% على مدى شهرين.
6 – انتخابات يوليو 2013، حيث انخفضت مستويات النقد أكثر من 1.9% على مدى شهرين (تم القبض على العديد من المرشحين وتمت ادانة 3 منهم لكن مع وقف التنفيذ).
مما سبق يتبين أن هناك احتمالاً كبيراً في شيوع استخدام وسيلة شراء الأصوات عند تغيير النظام الانتخابي أي عدد الدوائر أو عدد الأصوات لكل ناخب. ولمعرفة أكبر بدلالة الأرقام السابقة، يكفينا أن نعرف أن المعدل العام لارتفاع عرض النقد في الكويت لشهرين متتاليين هو 1.7% فقط منذ سنة 1978 وحتى أغسطس 2016.
الأسباب
نتائج الدراسات والأبحاث على شراء الأصوات:
تشير الدراسات الى أن هناك عدة عوامل تقلل من فرص نجاح عملية شراء الأصوات وهي:
1 – ارتفاع المستوى التعليمي للناخب. (يقابله استمرار سوء مخرجات التعليم عندنا).
2 – معرفة الناخب الجيدة بالمرشحين. (يقابله كثرة حل المجالس بشكل مفاجئ عندنا).
3 – وجود انتماء سياسي للناخب. (يقابله عدم وجود أحزاب سياسية بشكل كامل عندنا).
4 – نمو اقتصادي حقيقي داخلي. (يقابله اعتماد المواطن على الراتب الحكومي، واعتماد شريحة على المناقصات الحكومية عندنا).
5 – سرية عالية في عملية التصويت.
لكن المثير جداً في نتائج الدراسات أن هناك إيجابيات لعملية شراء الأصوات! فهي تزيد من أعداد الناخبين الذين يقومون بعملية الانتخاب، لأن هناك من يهتم بالانتخابات فقط لأجل بيع صوته أو التكسب منه. وهنا يمكن الرجوع الى التغيير الكبير في مستويات النقد عندنا في المجلس المبطل الثاني، أو مجلس الصوت الواحد، لتأكيد ذلك. والأكثر غرابة هو أن هناك قناعة عند الناخبين بمصداقية وقدرة المرشح، الذي يقوم بشراء الأصوات، على تحقيق وعوده، لا ننسى أننا كثيرا ما نسمع أن هذا المرشح قوي ومدعوم.. إلخ، مما يؤكد نتائج الدراسات.
عقوبات غير رادعة
كانت العقوبات الصادرة بحق المرشحين والنائب السابق بعد ادانتهم، لا تتعدى بضعة آلاف من الدنانير لوقف التنفيذ، وهم من كان عندهم استعداد لدفع مئات الآلاف، وربما الملايين لشراء الأصوات. أي أن العقوبة لا تسبب أي ضرر للمذنبين غير التشهير والسمعة السيئة، ويستطيعون أن يكرروا فعلتهم بعد سنوات السماح، وهي لا تتجاوز السنوات الثلاث، أي أقل من مدة مجلس كاملة.
شراء أصوات النواب
لا تقتصر عملية شراء الأصوات على الناخبين عندنا، فهناك كلام كثير عن عمليات لشراء أصوات النواب في قوانين أو مقترحات معينة، وهنا تتغير القيمة المتبادلة من مبالغ نقدية صغيرة أو مناقصات صغيرة إلى مبالغ ومناقصات كبيرة (مئات الآلاف أو الملايين)، وأمور أخرى كبيرة في الأهمية.
شراء وبيع عبر الإنترنت
أخيراً حاول 3 أشخاص عرض أصواتهم في الانتخابات الرئاسية الأميركية في مزاد على موقع eBay، ولأن شراء الأصوات مجرم في الولايات المتحدة منذ سنة 1680 تقريبا، عندما كانت تحت الاستعمار، قامت إدارة الموقع بإغلاق الحسابات بسرعة، وكان أحد الأصوات قد وصل لسعر 122 دولاراً. وفي الانتخابات الرئاسية عام 2000، أنشأ موقع VoteAuction.com لبيع الأصوات الانتخابية بشكل سري، بحيث يقوم الناخب بطباعة وتعبئة نموذج الانتخاب المخصص للناخبين خارج الولايات المتحدة، وتوقيعه وارساله إلى الشاري بشكل سري جداً. لكن تم إيقافه بشكل سريع بسبب الاحتيال وتجريم شراء الأصوات.